فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ} أي إلى كتاب الله وحكم رسوله.
{أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قال ابن عباس: أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار، وإن كان ذلك فيما يكرهون؛ أي هذا قولهم، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا يقولون سمعنا وأطعنا.
فالقول نصب على خبر كان.
واسمها في قوله: {أن يقولوا} نحو {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران: 147].
وقيل: إنما قولُ المؤمنين، وكان صلة في الكلام؛ كقوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيًّا} [مريم: 29].
وقرأ ابن القَعْقَاع {لِيُحْكَمَ بينهم} غير مسمّى الفاعل، عليّ بن أبي طالب {إنما كان قول} بالرفع.
قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} فيما أمر به وحكم.
{وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} قرأ حفص {وَيَتَّقْه} بإسكان القاف على نية الجزم؛ قال الشاعر:
ومن يَتَّقْ فإنّ الله معه ** ورِزْقُ الله مُؤْتابٌ وغادِي

وكسرها الباقون، لأن جزمه بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر.
واختلس الكسرة يعقوب وقالُون عن نافع والبُسْتِيّ عن أبي عمرو وحفص.
وأشبع كسرة الهاء الباقون.
{فأولئك هُمُ الفآئزون} ذَكر أسلم أن عمر رضي الله عنه بينما هو قائم في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول: أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت لله.
قال: هل لهذا سبب! قال: نعم! إني قرأت التوراة والزّبور والإنجيل وكثيرًا من كتب الأنبياء، فسمعت أسيرًا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت.
قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} في السنن {وَيَخْشَ الله} فيما مضى من عمره {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره {فأولئك هُمُ الفآئزون} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة.
فقال عمر: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أوتِيتُ جوامع الكَلِم». اهـ.

.قال أبو حيان:

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.
وقرأ عليّ وابن أبي إسحاق والحسن {إنما كان قول} بالرفع والجمهور بالنصب.
قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن أولى الاسمين بكونه اسمًا لكان أو غلهما في التعريف و{أن يقولوا} أو غل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين.
وكان هذا من قبيل كان في قوله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} {ما يكون لنا أن نتكلم بهذا} انتهى.
ونص سيبويه على أن اسم كان وخبرها إذا كانتا معرفتين فأنت بالخيار في جعل ما شئت منهما الاسم والآخر الخبر من غير اعتبار شرط في ذلك ولا اختيار.
وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن الياس {ليحكم بينهم} مبنيًا للمفعول، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير المصدر أي {ليحكم} هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم {بينهم} ومثله قولهم: جمع بينهما وألف بينهما وقوله تعالى: {وحيل بينهم} قال الزمخشري: ومثله {لقد تقطع بينكم} فيمن قرأ {بينكم} منصوبًا أي وقع التقطع بينكم انتهى.
ولا يتعين ما قاله في الآية إذ يجوز أن يكون الفاعل ضميرًا يعود على شيء قبله وتقدم الكلام في ذلك في موضعه.
{أن يقولوا سمعنا} أي قول الرسول {وأطعنا} أي أمره.
وقرىء {ويتقه} بالإشباع والاختلاس والإسكان.
وقرىء {ويتقه} بسكون القاف وكسر الهاء من غير إشباع أجرى خبر كان المنفصل مجرى المتصل، فكما يسكن علم فيقال علم كذلك سكن ويتقه لأنه تقه كعلم وكما قال السالم:
قالت سليمى اشتر لنا سويقًا

يريد اشتر لنا {ومن يطع الله} في فرائضه {ورسوله} في سننه و{ويخشى الله} على ما مضى من ذنوبه {ويتقه} فيما يستقبل.
وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين}.
بالنَّصبِ على أنَّه خبرُ كانَ، وأنْ مع ما في حيِّزِها اسمُها. وقرئ بالرَّفعِ على العكسِ والأوَّلُ أقوى صناعةً لأنَّ الأَولى للاسميَّةِ ما هُو أوغلُ في التَّعريفِ وذلكَ هو الفعلُ المصدَّرُ بأَنْ إذْ لا سبيلَ إليه للتَّنكيرِ بخلافِ قولَ المُؤمنين فإنَّه يحتملُه كما إذا اعتزلتْ عنه الإضافةُ، لكن قراءةُ الرَّفعِ أقعدُ بحسب المَعْنى وأوفى لمُقتضى المقام لما أنَّ مصبَّ الفائدةِ وموقعَ البيانِ في الجُملِ هو الخبرُ فالأحقُّ بالخبريَّةِ ما هو أكثرُ إفادةً وأظهرُ دلالةً على الحدوثِ وأوفرُ اشتمالًا على نسبٍ خاصَّةٍ بعيدةٍ من الوقُوع في الخارج وفي ذهن السَّامعِ. ولا ريبَ في أنَّ ذلكَ هاهنا في أنَّ مع ما في حيِّزها أتمُّ وأكملُ فإذا هو أحقُّ بالخبريَّةِ، وأما ما تفيدُه الإضافةُ من النِّسبةِ المُطلقةِ الإجماليَّةِ فحيث كانتْ قليلةَ الجَدوى سهلةَ الحُصول خارجًا وذهنًا كان حقُّها أنْ تُلاحظ ملاحظةً مجملةً وتجعلَ عُنوانًا للموضوعِ فالمعنى إنَّما كانَ مطلقُ القولِ الصَّادرِ عن المؤمنين {إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ} أي الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ {بَيْنَهُمْ} أي وبين خصومِهم سواءً كانُوا منهم أو من غيرِهم {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي خصوصية هذا القولِ المحكيِّ عنهم لا قولًا آخرَ أصلًا.
وأما قراءةُ النَّصبِ فمعناها إنما كانَ قولُ المؤمنين أي إنما كانَ قولًا لهم عند الدَّعوةِ خصوصية قولهم المحكيِّ عنهم ففيه من جعلِ أخصِّ النِّسبتينِ وأبعدهما وقوعًا وحضُورًا في الأذهانِ وأحقِّهما بالبيان مفروغًا عنها عُنوانًا للموضوعِ وإبرازِ ما هو بخلافِها في معرضِ القصدِ الأصليِّ ما لا يَخْفى. وقرئ ليُحكمَ على بناءِ الفعلِ للمفعولِ مُسندًا إلى مصدرِه مُجاوبًا لقوله تعالى: {إِذَا دُعُواْ} أي ليُفعل الحكمُ كما في قولِه تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أي وقعَ التَّقطُّعُ بينكم.
{وَأُوْلئِكَ} إشارةٌ إلى المؤمنينَ باعتبارِ صدورِ القولِ المذكُورِ عنهم، وما فيه من معنى البُعد للإشعارِ بعلوِّ رُتبتِهم وبُعدِ منزلتِهم في الفضل أي أولئك المنعُوتون بما ذُكر من النَّعتِ الجميلِ {هُمُ المفلحون} أي هم الفَائزون بكلِّ مطلبٍ والنَّاجُون من كلِّ محذورٍ.
{وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} استئنافٌ جيء به لتقرير مضمونِ ما قبله من حُسنِ حالِ المُؤمنين وترغيب مَن عداهُم في الانتظام في سلكِهم أي ومَن يُطعهما كائنًا مَن كان فيما أُمرا به من الأحكامِ الشَّرعيَّةِ اللازمةِ والمتعديَّةِ وقيل: في الفرائضِ والسُّننِ والأوَّلُ هو الأنسبُ بالمقام {وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ} بإسكانِ القافِ المبنيِّ على تشبيهِه بكِتْفٍ. وقرئ بكسرِ القافِ والهاءِ وبإسكانِ الهاءِ أي ويخشَ الله على ما مَضَى من ذنوبِه ويتقه فيما يستقبلُ {فَأُوْلَئِكَ} الموصُوفون بما ذُكر من الطَّاعةِ والخشية والاتِّقاءِ {هُمُ الفائزون} بالنَّعيم المُقيم لا مَن عداهُم. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}.
جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ونصب {قَوْلَ} على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها، ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع {قَوْلَ} على الاسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية.
وقد قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق: والحسن برفع {قَوْلَ} على ذلك قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أول به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه لتلنكير بخلاف {قَوْلَ المؤمنين} فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة، وقيل في وجه أعرفيته أنه لا يوصف كالضمير، ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية، ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافًا في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى: {مَا كَانَ هذا القرءان أَن يَفْتَرِى} [يونس: 37] إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراء.
وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو متعين في نحو أن يقوم رجل إذ هومؤول قطعًا بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب.
وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالًا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية، وأما ما تفيده الإضافة من النسب المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجًا وذهنًا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانًا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المئمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا سمعنا الخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولًا آخر أصلًا، وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولًا للمؤمنين خصوصية قولهم {سَمِعْنَا} الخ ففيه من جهل أخص النسبتين وأبعدهما وقوعًا وحضورًا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغًا عنها عنوانًا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى، وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا، ولا شك أن الأنسب في مدحه الأخبار عنه لا الاخبار به فينبغي أن يجعل {أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} اسم كان و{قَوْلَ المؤمنين} خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم: {إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين: {آمنا بالله وبالرسول وأطعنا} [النور: 47] فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة، والظاهر أن المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينكم وبيننا، وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغالير ما مر وهو كما ترى.
وقرأ الجحدري وخالد بن إلياس {لِيَحْكُمَ} بالبناء للمفعول مجاوبًا لدعوا، وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ} [سبأ: 54] {وَأُوْلئِكَ} إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، ومافيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجليل {هُمُ المفلحون} أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور.